في حوار خاص مع جريدة سوس بلوس الإخبارية، يغوص الاستاذ والكاتب والباحث عادل الحسني، في تسليط الضوء على رحلة العلاج النفسي الشعبي بالحضرة، وكيف يسعى الانسان الى البحث عن الشفاء الروحي والنفسي من خلال ايقاعات الحضرة.
ف”الحضرة” تعد إحدى الطقوس الروحية التي يمارسها بعض المسلمين المنتمين إلى المذهب الصوفي، يصدحون باناشيد امداح وابتهالات خاصة، في سعيهم إلى السمو بالروح للحظة “الصفاء وتطهير روحي”.
ورغم قدم “الحضرة” والمكانة التي يحتلها في نفوس بعض المغاربة، الذين يسعون إلى احيائها في كل مناسبة دينية، الى أن البعض يربطها ب”عادات سيئة أشبه ببدع دخيلة لا تمت للدين الاسلامي بصلة”. عالم الجذبة والحضرة مليئ بالخير والجنون والظاهر والباطن والخفي والمخيف بحثا عن الهدوء والسكينة وفي هذا الحوار تجدون تفسيرات الأستاذ الباحث عادل الحسني عن بعض من معالم هذا العالم.
حاوره فارس الحكيمي، صحافي متدرب.
بداية نهنئكم بمولودكم الجديد، الذي اخترتم له اسم “سحر حضرة لملوك في المغرب تحليل نفسي-اجتماعي”، وهو دراسة علمية ميدانية لهذه الطقوس الشعبية، امتدت لخمس سنوات من البحث والعمل الجاد كما جاء على لسانكم في مناسبات عديدة، وبداية، تسود فكرة شائعة لدى بعض المغاربة، ان “الحضرة” شبيهة بطقوس تحضير الجن، ما ردكم على هذا؟
لفهم الظواهر، يحاول العقل البشري دائماً الانحياز لأقرب شبيه لها، بحثاً عن تفسير يريحه في استيعابها. لكن هذا الانحياز قد يجعلنا ضحايا لفهم مبسط، ونهمل الفروق المهمة في الظواهر.
في موضوع “الحضرة” أو “حضرة الملوك”، هناك تعسف في تشبيه طقوسها بطقوس تحضير كائنات خرافية كما هو شائع في الثقافات الشعبية الغربية.
ورغم أن مؤطري الحضرة يؤمنون بخرافات تتعلق بملوك الجن وفعاليتهم، إلا أن الفرق الأساسي هو أن الحضرة تستكمل قصة متخيلة زرعت في وعي مريد التعافي، فتجعله يبتعد عن صراعه تجاه مقربيه الحقيقيين، وينخرط في صراع مع كائن غيبي، وحين يُطلب منه التصالح مع هذا الكائن، يكون هذا الأخير متناسباً مع طبيعة الصراع الذي يعيشه الفرد.
مثلاً:
“ميمون” يرمز إلى العراقيل التي تمنع الحظ السعيد.
“لالة عيشة” تتجسد في صراعات القمع والتهميش والاحتقار.
“حمو” يرتبط بالغضب المكبوت.
إذن، المعتقدات الشعبية حول “حضرة الملوك” لا تعني استحضار الجن بحد ذاتهم، لأنهم – في هذه المعتقدات – حاضرون دائماً ومؤثرون في حياة الإنسان. ما يُستحضر في الحضرة هو حالة التفريغ والمصالحة، حيث يعمل هؤلاء “الملوك” كوسطاء رمزيين لذلك.
دائما ما نرى في “الحضرة” بعض الطقوس الغربية، كذبح “عتروس أسود” وشرب الماء الساخن وضرب الأجساد، هل تدخل هذه الطقوس ضمن “الحضرة”؟
هذه الطقوس العنيفة تُمارَس في محطات محددة من العلاج الشعبي الخرافي، قبل أو خلال أو بعد الحضرة. فالذبائح تُقدَّم غالباً قبلها أو بعدها، أما شرب الماء المغلي أو إيذاء الذات خلال إيقاع الحضرة المرتفع، فيحدث كرد فعل على مرحلة “طرح” الطاقات السلبية.
لكنها، علاوة على كونها ممارسات مؤذية يجب الحد منها واستبدالها بأساليب تفريغ أكثر أماناً، لم تعد مناسبة لسياقات الضغوط النفسية والاجتماعية الحديثة. لذلك، فقد شهدت تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة.
ما موقف الدين الإسلامي من طقوس الحضرة؟
الخطاب الديني السائد يعتبر “حضرة الملوك” شكلاً من أشكال الشرك، بسبب ارتباطها بمظاهر يُنظر إليها على أنها خرافية وغير منسجمة مع العقيدة. في المقابل، هناك طقوس حضرة أخرى – كحضرة الطوائف الصوفية السنية – يدافع عنها فقهاؤها باعتبارها مجرد مجالس “ذكر”.
لكن التدقيق في تفاصيل هذه الطقوس قد يُعيد النظر في الأحكام الدينية والاجتماعية المتعلقة بها. فمريدو التعافي عبر حضرة الملوك، يركزون على جانبها العلاجي أكثر من ارتباطها بالشرك، وحتى المؤطّرون أنفسهم يسعون إلى تبريرها دينيًا عبر الاعتراف بعالم الجن كجزء من العقيدة.
أما الدولة، فتتعامل مع هذه الطقوس بحذر: تتبنى الموقف الفقهي الرسمي الرافض، لكنها في الوقت نفسه مضطرة لحماية الموروث الثقافي، ضمن حدود تضمن السلامة العامة.
في النهاية، يمكن اعتبار الحضرة مجالاً للتفريغ والمصالحة أكثر من كونها ممارسة ذات أبعاد غيبية، ويبقى المطلوب هو التفكير في تخفيف المظاهر المرفوضة منها.
لماذا وصفتَ هذه الطقوس في كتابك بالموروث الشعبي المغربي؟ هل هذا يعني أنها موجودة فقط في المغرب؟
من حيث الجوهر، فإن طقوس “حضرة الملوك” تشبه إلى حد كبير طقوس “الزار” في مصر وإيران، وهناك أشكال مماثلة لها في الجزائر. كما أن طقوساً قريبة جداً منها تُمارس في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
في الحقيقة، الحضرة موجودة في كل الثقافات تقريباً، بأشكال متنوعة، حتى في طقوس الدراما العلاجية اليونانية التي تحولت لاحقاً إلى عروض مسرحية. وهذا يعكس أن الحضرة هي تعبير جماعي غريزي للتعافي النفسي عبر وسطاء متخيلين.
لكن حضرة الملوك في المغرب تتميز بخصوصيتها المحلية، من حيث الموسيقى، التأثيث الجمالي، الألبسة، والبخور، مما يجعلها جزءاً أصيلاً من الثقافة المغربية.
هل لا زالت الحضرة محافظة على مكانتها في المجتمع المغربي؟
الملاحظة المباشرة خلال السنوات الأخيرة، وتصريحات العاملين في هذا المجال، تُظهر أن تنظيم “الليلات” – أي ليالي حضرة الملوك المخصصة للتعافي – قد تقلص بشكل واضح.
التراجع يعود إلى عدة عوامل:
تصاعد الخطاب الديني الرافض لها.
الوصم الاجتماعي المرتبط بممارستها.
تغيّر عقلية الأجيال الجديدة.
لكن بالمقابل، ارتفعت أمسيات “الفرجة”، التي تحافظ على الإطار الموسيقي للحضرة لكنها تفقد بعدها العلاجي. الفرق الجوهري هو أن “الليلات” كانت تُقام بهدف التعافي، بينما أمسيات الفرجة تُنظَّم فقط للمتعة الفنية.
كيف تطورت الحضرة عبر الزمن في المغرب؟
لم يتم العثور بعد على أقدم شكل موثق لـ”حضرة الملوك”، لكن يمكن رصد تطوراتها منذ سنة 1969، حيث كانت تُنظم في الأسواق الأسبوعية أو في الساحات أمام الأضرحة، بمشاركة مفتوحة للرجال والنساء دون وصم اجتماعي.
مع التغيرات الاجتماعية، انتقلت الحضرة إلى المنازل، لا سيما الرياضات والقصبات، وأصبحت تقتصر على المدعوين فقط.
لماذا تُقام الحضرة غالباً خلال المناسبات الدينية مثل عيد المولد النبوي؟
يرتبط ذلك بعدة عوامل:
البعد الروحي: حيث يكون الناس أكثر استعداداً للممارسات التعبيرية والروحانية خلال هذا الوقت.
الطاقة الجماعية: فالمواسم الدينية تشهد تجمعات كبيرة، مما يسهل الدخول في حالات وجدانية مثل التي تحدث في الحضرة.
المفهوم الشعبي للبركة: حيث يُعتقد أن الروحانيات تكون أقوى خلال هذه المناسبات، مما يزيد من فاعلية الطقس.
التداخل مع الطرق الصوفية: إذ تستخدم العديد من الطرق الصوفية الذكر والإيقاع والحركات الجسدية ضمن احتفالاتها بهذه المناسبات.
هل “الحضرة” هي نفسها “الجدبة”؟
يخلط كثيرون بين المصطلحين، لكن هناك فرقاً واضحاً بينهما:
الحضرة: هي الإطار العام الذي يجمع بين الأذكار، الموسيقى، الإيقاع، والتفاعل الرمزي مع القوى الروحية، بهدف تحقيق التفريغ النفسي والمصالحة.
الجدبة: هي إحدى مراحل الحضرة، وتحدث عند وصول المشاركين إلى حالة من الاندماج الجسدي والروحي العميق، مما يدفعهم لأداء حركات جسدية إيقاعية مثل اهتزاز الرأس أو الجسم.
بالتالي، كل “جدبة” هي جزء من “حضرة”، لكن ليس كل “حضرة” تتضمن “جدبة”.
ذكرتكم في كتابكم ان “الحضرة هي علاج شعبي نفسي” هل يمكن الاعتماد على الحضرة كعلاج نفسي؟
يمكن أن تلعب الحضرة دوراً مهماً في التخفيف من التوتر النفسي، لكنها لا يمكن أن تحل محل العلاجات النفسية الحديثة.
تمنح المشاركين فرصة للتنفيس عن مشاعرهم المكبوتة، مثل تقنيات التفريغ العاطفي في العلاج النفسي.
تعمل كدراما علاجية جماعية تساعد في تخفيف التوتر.
لكنها لا تقدم حلاً دائماً للاضطرابات النفسية المعقدة، بل قد تعزز بعض المعتقدات الغيبية لدى الممارسين بدلاً من معالجتها علمياً. لذلك، يجب دراستها أكاديمياً لمعرفة كيف يمكن دمج عناصرها في العلاجات النفسية الحديثة بشكل آمن.