في خطابه أمام البرلمان، وفي إشارة إلى التاريخ الطويل للعلاقات المغربية الفرنسية، بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حديثه عن ” عبد الله ابن عائشة” كأول سفير مغربي في فرنسا، في عهد السلطان مولاي اسماعيل. فمن هي هذه الشخصية التي جاء ذكرها في خطاب ماكرون؟
عودة لبعض المصادر هو أبرز أقطاب الديبلوماسية المغربية في عهد المولى اسماعيل، ولد في أواسط القرن السابع عشر الميلادي وزاول القرصنة شأن كثير من القادمين من الأندلس و الذين استقر بعضهم بالمدن الساحلية من المغرب.
وكان ابن عائشة يضايق السفن الفرنسية و الإنجليزية حيث يبتعد ببواخره في شواطئ المحيط الأطلسي متجها صوب المياه المجاورة لفرنسا و انجلترا، و في سنة 1680م، وقع أسيرا في قضية باخرة انجليزية، و كان قد اشتهر يومئذ كزعيم حقيقي لقراصنة سلا و الرباط، و قد ظل في بريطانيا مدة ثلاث سنوات حتى اهتم بأمره جاك أخو شارل الثاني ملك بريطانيا و تدخل لإطلاق سراحه، فحفظ ابن عائشة للأسرة الملكية هذه المنة سائر حياته.
و عندما أصبح جاك الثاني ملكا توجه ابن عائشة باسم السلطان” مولاي إسماعيل” إلى انجلترا لتهنئته.
وكانت مشكلة العلاقات التجارية والأسرى الفرنسيين تشغل بال الحكومة الفرنسية التي كانت سفنها عرضة للحجز من طرف قراصنة المغرب، وقد أجريت مفاوضات واتصالات كثيرة فيما قبل بين السعديين و البلاط الفرنسي بشأن الأسرى، و توبعت المفاوضات في عهد مولاي إسماعيل.
وبعد أن أمضى السلطان المولى اسماعيل معاهده هدنة مع لويس الرابع عشر لمدة ثمانية أشهر، وحمل السفير المغربي رسالة اعتماده موجزة، تحمل تاريخ 23-3-1110 و فيها يلقب السلطان ابن عائشة بقبطان البحر و بالرئيس.
و كان ابن عائشة يتيقن الإسبانية و الإنجليزية، و قد سهل له مقامه كأسير ببريطانيا لمدة ثلاث سنوات اطلاعا وافيا على عادات المجتمع الأوروبي، و تصفه المراجع الأجنبية بالذكاء و الدهاء.
اشتهر إذن عبد الله بن عائشة في التاريخ المغربي بنجاحه في ميدان الحربية البحرية، وفي ميدان الدبلوماسية المغربية.. أما الميدان الأول فهو يتطلب شخصية صريحة وقوية، مندفعة مغامرة، وأما الميدان الثاني فلا بد أن يكون الناجح فيه متوفرا على كثير من خصال اللباقة والتبصر والاندفاع… وقد استطاع السفير المغربي، والأميرال الموفق، أن يجمع بين العملين ويوفق فيهما معا.. وأظهر ما في شخصيته من بطولة وشجاعة وقدرة على خوض الغمرات، وتمرس بعادات الأوربيين وتعرف على قضايا الأوربيين ولغتهم وأساليبهم في الحرب والسلم.
واحتفظت سجلات التاريخ الأوربي في النشاط القرصني باسمه لدى ذكرها للمغامرين المغاربة في الساحل، حيث كان اسم عبد الله ابن عائشة لامعا بين هؤلاء المشهورين، ففي سنة 1684 ذكرته الوثائق الإنجليزية في صراع أسطوله مع بعض السفن الإنجليزية، وكان عبد الله بن عائشة من الناجين من الغرق..
ولا شك أن تألق اسم عبد الله بن عائشة لفت نظر الدولة المغربية إليه لأن أعماله وشهرته في المغرب ودول أوربا مما كان يخوله أن ينال حظوة واعتبارا لدى الحكومة المركزية التي كانت تعتمد على عمل هؤلاء في صيانة الساحل المغربي والدفاع عنه، لهذا فقد عين أميرالا للبحر أي قائدا للأسطول المغربي، وقد تجاوز سن الشباب.
ويظهر أن تعيين المولى إسماعيل لعبد الله بن عائشة حتى يضطلع بهذا العمل يرجع إلى ما كان يتمتع به السفير المغربي من شهرة ذائعة في البلاد الأوربية، وقدرته على التحكم في الموقف الذي كان يعتبر أحد أبطاله المشهورين دون نزاع أو خلاف .. ومن ثم عينه المولى اسماعيل سفيرا إلى الملك لويس الرابع عشر الذي يعرف (عبد الله بن عائشة) .
وإذا كان المؤرخون المغاربة قلما يتحدثون عن هذه الشخصية اللامعة في عصرها فإن المؤرخين الغربيين تحدثوا عنه كثيرا لما كانت له من شهرة في عصره بأوروبا.. ولم يفت أصحاب الوثائق أن يتحدثوا عنه كما أن المصورين رسموا صورته في المسرح الفرنسي وهو يتتبع باهتمام بعض التمثيليات الكلاسيكية صحبة السفير المغربي محمد تميم..
بتصرف عن مجلة “دعوة الحق”